ذكرى فتح القسطنطينية.. حلم راود المسلمين ونال شرفه العثمانيون على يد محمد الفاتح
ـ فتح القسطنطينية كان غاية تتابعت على الوصول إليها الدول والممالك الإسلامية، ثم تحقق على يد السلطان العثماني محمد الفاتح ـ سلاطين الدولة قبل الفاتح قاموا بحصار القسطنطينية ومهاجمة سواحلها، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل نتيجة عوامل مختلفة
- مركز الأخبار
كان فتح القسطنطينية حلما راود قادة المسلمين على مر العصور، ليس فقط من أجل تأمين الدولة الإسلامية، ولكن لتعلق هذا الفتح ببشارة نبوية، أراد حكام الدول الإسلامية المتعاقبة أو المتزامنة نيل شرف القيام به.
ولما كانت الدولة العثمانية قائمة على تعاليم الإسلام، ورثت هذا الحلم وظهر ذلك في المحاولات المستمرة من حكامها لفتح جوهرة الدولة البيزنطية المسماة القسطنطينية.
فليست جهود محمد الفاتح لفتح القسطنطينية واهتماماته بها هي الأولى من نوعها في عهود الدولة العثمانية، بل سبقتها محاولات كثيرة لتحقيق هذا الهدف.
بدأت التطلعات العثمانية للقسطنطينية في عهد أورخان بن عثمان، فهاجمت قواته سواحلها، غير أن خبرة البحرية البيزنطية قد حالت دون انتصار القوات العثمانية، ثم قام بتهديدها مرة أخرى عندما وصلت قواته إلى شواطئ البسفور وذلك بعد استيلائه على نيقوميديا.
وفي عهد مراد الأول بن أورخان، الذي توسع في الفتوحات، شعر إمبراطور بيزنطة يوحنا الخامس بخطورة الأول على القسطنطينية، فعقد معه معاهدة سلام، اعترف فيها بالسلطان العثماني مراد الأول سيدا له عام 1362م.
وبعد أن فشل يوحنا الخامس في استجداء الغرب لتوحيد كنيستي روما والقسطنطينية بغرض التعبئة ضد أخطار مراد الأول على المدينة البيزنطية، عقد معاهدة سلام أخرى مع السلطان العثماني عام 1372 يدفع بموجبها جزية سنوية للدولة العثمانية ويلتزم بتقديم الدعم العسكري إليها وقت الحاجة.
بل ترك يوحنا الخامس ابنه رهينة لدى السلطان العثماني، والتزم بالسماح للعثمانيين بدخول القسطنطينية، وذلك وفقا للمؤرخ البيزنطي خالكوكونديليس.
ويعتبر عهد مراد الأول عهد النفوذ العثماني في القسطنطينية رغم أنه لم يهاجمها، بعد أن أصبح الإمبراطور البيزنطي يوحنا الخامس أشبه بتابع يؤدي خدمات لسيده العثماني.
وبلغ من هذا النفوذ أن أندرونيكوس بن يوحنا الخامس قد استنجد بالسلطان مراد الأول في النزاع مع أبيه، وتمكن بفضل مساعداته من دخول القسطنطينية واعتقال أبيه وأخويه.
ثم هرب يوحنا من الأسر، واستنجد بدوره بالسلطان مراد الأول، الذي أراد أن يحقق بعض الامتيازات والمكاسب السياسية، ووافق على دعمه في عودته إلى العرش.
بعد ذلك تم التوصل إلى اتفاقية بين الأب والابن يرث بموجبها أندرونيكوس الحكم بعد وفاة والده يوحنا الخامس، ولم تنته علاقة تبعية الأسرة الحاكمة في القسطنطينية بالسلطان العثماني مراد الأول إلا بعد وفاة الأخير في معركة كوسوفو عام 1389م.
بعد اعتلاء بايزيد الأول (الملقب بالصاعقة) العرش خلفا لمراد الأول، تابع سياسة التدخل في شؤون الأسرة الحاكمة للقسطنطينية والصراعات الداخلية التي دارت بين رموزها، وقام بدعم يوحنا السابع بن أندرونيكوس الرابع عام 1390م في مواجهة والده، إلا أن قواته فشلت في الاستيلاء عليها.
زحف بايزيد الصاعقة إلى تراقيا بالجيش العثماني، ثم تقدم ناحية القسطنطينية لحصارها في عهد الإمبراطور مانويل بن يوحنا الخامس، إلا أن الحصار انتهى بعقد صلح بين الطرفين، اشترط فيه السلطان بايزيد على خصمه بإقامة مسجد في القسطنطينية.
كما اشترط عليه تعيين قضاة مسلمين لتسيير شؤون التجار العثمانيين في القسطنطينية، وتخصيص حي كامل لإقامتهم والسماح لهم بحرية ممارسة شعائرهم، إضافة إلى التزامه بأداء الجزية التي كان يدفعها والده، وبالفعل استجاب مانويل لهذه الشروط.
ثم قام بايزيد بحملة أخرى لحصار القسطنطينية عام 1394م، واستولى على جميع أملاكه خارج أسوار المدينة البيزنطية التي تعد البوابة الشرقية للعالم الأوروبي المسيحي.
وحينها استنجد الإمبراطور مانويل بالغرب وتلقى وعودا بالدعم لم تتحقق، فظل في باريس ينتظر نبأ سقوط القسطنطينية، بل وصل الأمر إلى أن وفدا من النبلاء البيزنطيين توجهوا إلى بايزيد لتسليم مفاتيح المدينة.
نستطيع القول إن المدينة التاريخية كانت على وشك السقوط في يد العثمانيين في عهد بايزيد الأول، إلا أن تنامي قوة المغول مثل خطرًا كبيرا على الدولة العثمانية، ونشبت معركة كبيرة بين المغول بقيادة تيمور لنك والعثمانيين بقيادة بايزيد الأول، نتج عنها هزيمة العثمانيين في موقعة "أنقرة".
وذكر أكثر من مؤرخ معروف في بلاد العرب، كابن تغري بردي في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، وابن العماد في كتاب "شذرات الذهب"، وغيرهما، أن بايزيد وقع في الأسر وتلقى معاملة قاسية حتى مات كمدا.
وفي ذلك يقول عنه ابن تغري بردي: "استمر (بايزيد) في أسر تيمور من ذي الحجّة، إلى أن مات بكربته وقيوده، في أيام من ذي القعدة سنة خمس وثمانمئة (805ه)، وكان من أجل الملوك حزما وعزما وشجاعة".
وإزاء هذه الهزيمة التي غيرت مجرى الأحداث في المنطقة، اضطر سليمان بن بايزيد إلى توقيع معاهدة مهينة مع الدولة البيزنطية.
وفي عهد السلطان مراد الثاني، توجهت القوات العثمانية لمحاصرة القسطنطينية عام 1422م، وأوشكت المدينة على السقوط، إلا أن الإمبراطور البيزنطي مانويل نجح في التحريض على ثورة في ممتلكات الدولة العثمانية بآسيا الصغرى ضد السلطان العثماني لجذب انتباهه عن حصار القسطنطينية، واضطر مراد الثاني بالفعل إلى إنهاء الحصار والتوجه لإخماد الثورة.
ويعتبر هذا الحصار رغم انتهائه، إيذانًا باستعادة الدولة العثمانية عافيتها والإصرار على ضم القسطنطينية للدولة العلية، حتى تحقق حلم العثمانيين بل والمسلمين كافة بفتح القسطنطينية على يد السلطان محمد بن مراد الثاني الملقب بالفاتح.
وبهذا الفتح بدأ عصر جديد وصفه الدكتور حاتم عبد الرحمن الطحاوي في ترجمته وتقدمته لكتاب "يوميات الحصار" لـ "نيقولو باربارو" بأنه بداية نشوء نظام عالمي جديد بنجاح العثمانيين في القضاء على أهم القوى المؤثرة في العصور الوسطى على مدى 11 قرنا وهي الإمبراطورية البيزنطية، والانتقال كذلك بالدولة العثمانية من مرحلة الدولة إلى مرحلة الإمبراطورية.
آثار فتح القسطنطينية على أوروبا
أحدث فتح القسطنطينية عام 1453م على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، آثارًا ضخمة في أوروبا، والتي اهتزت لسقوط حصنها الشرقي ودرعها الواقي على مدى أكثر من 11 قرنا من الزمان.
تنوعت هذه الآثار، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الديني، وما إن تلقى الغرب صدمة فتح العثمانيين للمدينة العتيقة، حتى دعا البابا نيقولا الخامس إلى شن حملة صليبية جديدة لاستعادة القسطنطينية، وفي سبيل تحقيق ذلك أمر بإعادة فرض ضريبة العشر لتمويل الحملة، والتي كانت قد فرضتها البابوية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين بعد استرداد صلاح الدين الأيوبي للقدس.
لم تخرج الدعوة إلى حيز التنفيذ بسبب خوف أوروبا من سطوة العثمانيين، وبعد وفاة نيقولا تولى البابوية كالستوس الثالث، وسعى من خلال الضرائب لتمويل أسطول بحري لاسترداد القسطنطينية، وقد تمكن الأسطول من ضم بعض الجزر في بحر إيجة، لكن استردها العثمانيون منهم مرة أخرى بعد فترة وجيزة.
وقد كان للفتح أثر في تطور العسكرية الأوروبية، حيث بدأت الدول الأوروبية بدراسة تكتيكات العثمانيين في فن الحروب، خاصة في اقتحام المدن وفرض الحصار، وبلغ إعجابهم بجنود الإنكشارية إلى حد أنهم سعوا لتكوين فرق عسكرية مشابهة لها، وعلى إثر بروز قيمة المدفعية في الفتح، عملت أوروبا على تطوير مدفعيتها ومداها.
كما أن لفتح القسطنطينية آثار بارزة على الغرب في ميدان الفكر مع نهايات العصور الوسطى وبداية العصر الحديث، ويوضح الدكتور حاتم عبد الرحمن الطحاوي في تقديمه لكتاب "يوميات الحصار" لمؤلفه نيقولو باربارو، هذا الأثر، بقوله إن التهديد العثماني المستمر للقسطنطينية ثم فتحها، دفع كثيرًا من رجال الفكر والعلم والثقافة في جامعة القسطنطينية ومنتدياتها إلى التوجه صوب بلاد الغرب وخاصة إيطاليا، وهؤلاء بدورهم حملوا معهم مفاتيح العلم اليوناني وذخائر الكتب التي أسهمت في إثراء الفكر الغربي، وسارع في إعادة ربطه بروافد الحضارة اليونانية القديمة، ما أسهم في انتشار اللغة اليونانية، وأثر على إيطاليا بصفة خاصة حيث تبوأت مكانتها كوريث للثقافة البيزنطية والفكر اليوناني وبزوغ فجر النهضة الأوربية على الأراضي الإيطالية.
وعلى الصعيدين الاقتصادي والتجاري، سعت جنوة والبندقية إلى التودد للسلطان العثماني محمد الفاتح، والحصول على امتيازات تجارية في بيرا والقسطنطينية التي صارت عاصمة جديدة للعثمانيين.
نجحت جنوة في الحصول على معاهدة تجارية هامة من السلطان، إضافة إلى تحديد قيمة الجمارك بنفس قيمتها السابقة قبل فتح القسطنطينية.
وفي العام التالي (1454م)، حصلت البندقية على اتفاقية مماثلة من السلطان، على أن تدفع رسوما جمركية بنسبة 2 بالمئة، وتمنح رعايا السلطان الذين يقيمون فيها نفس الامتيازات التي حصلت عليها من السلطان.
حذت جمهورية فلورنسا حذو جنوة والبندقية، فسعت لإقامة علاقات تجارية وطيدة مع السلطان، وكانت قد وقفت على الحياد حيال الفتح، وأرسلت بعد فتح القسطنطينية أسطولا تجاريا للقرن الذهبي.
ونتيجة لزيادة الأساطيل البحرية العثمانية في البحر المتوسط بعد الفتح، ازدادت مخاوف الدول الأوروبية وخاصة إسبانيا والبرتغال على سفنها التجارية، فسعت للبحث عن طرق ملاحية جديدة، فبدأت الكشوف الجغرافية التي نتج عنها اكتشاف العالم الجديد، والطرق البحرية الجديدة.
ولم تقف آثار الفتح على أوروبا عند هذه المجالات، بل ظهرت كذلك على الكنائس الأوروبية، حيث كان الشعب البيزنطي يكره اللاتين ويرفض فكرة الاتحاد الكنسي التي انطلقت الدعوة إليها في كنيسة "آيا صوفيا" إبان حصار العثمانيين للقسطنطينية.
كان السلطان الفاتح يدرك هذه الأمور، فعمل على استقرار سكان القسطنطينية البيزنطيين، وأفرج عن البطريرك البيزنطي الأرثوذكسي وأعاد تنصيبه، ومنحه كافة الصلاحيات التي كانت تمنح للبطاركة الأرثوذكس، وكفل السلطان للجميع حرية العبادة.
لقد أدى ذلك إلى التأكيد على مبدأ الانفصال بين الكنيسة البيزنطية وكنيسة روما بشكل أبدي، واعتبر الأرثوذكس السلطان محمد الفاتح حامي الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، وحامي رعاياها من سطوة الخوف من فكرة الاتحاد الكنسي التي كانت هاجسا مرعبا يداهمهم.
لسنا بعيدين عن الحقيقة إن قلنا إن فتح القسطنطينية قد امتدت آثاره على أوروبا إلى عصرنا هذا، فما تزال أوروبا تتعامل مع تركيا الحديثة على أنها وريثة الإمبراطورية العثمانية التي قضت على الإمبراطورية البيزنطية وغيرت وجه الحياة في أوروبا، ولعل أبرز ما يعبر عن النظرة العدائية، ذلك التعنت والتعسف الأوروبي في انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والمحاولات المستمرة لوضع العصا في عجلة النهوض التركية.
- فتح القسطنطينية
- فتح إسطنبول
- إسطنبول
- تركيا
- محمد الفاتح
- الفاتح